سورة النساء - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)}
{تِلْكَ} أي الأحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها، واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث {حُدُودَ الله} أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه {يُدْخِلْهُ جنات} نصب على الظرفية عند الجمهور، وعلى المفعولية عند الأخفش. {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها وأبنيتها، وقد مرّ الكلام في ذلك {الانهار} أي ماؤها {خالدين فِيهَا} حال مقدرة من مفعول {يُدْخِلْهُ} لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك: مررت برجل معه صقر يصيد به غدًا، وصيغة الجمع لمراعاة معنى {مِنْ} كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها {وَذَلِكَ} أي دخول الجنات على الوجه المذكور {الفوز} أي الفلاح والظفر بالخير {العظيم} في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل؛ والجملة اعترض.


{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، وقال ابن جريج: من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث، وحكي مثله عن ابن جبير. {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها ما قص لنا قبل، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالًا كما حكي عن الكلبي {يُدْخِلْهُ} قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين {نَارًا} أي عظيمة هائلة {خالدا فِيهَا} حال كما سبق، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصفة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس، والخلود في دار العقاب بصفة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة، وجوز الزجاج والتبريزي كون {خالدين} [النساء: 13] هناك وخالدًا هنا صفتين لجنات أو نار، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس {وَلَهُ عَذَابٌ} أي عظيم لا يكتنه {مُّهِينٌ} أي مذل له والجملة حالية، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني، نسأل الله تعالى العافية.
واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه، وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قطع ميراثًا فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة» وأخرج منصور عن سليمان بن موسى والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو، وكأن عدم القسم إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض، فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعًا «إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة»، وأخرج البيهقي، والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الإثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها» ولعل الاحتمال الأول أظهر.
وهذا وقد سددنا باب الإشارة في الآيات لما في فتحه من التكلف، وقد تركناه لأهله.


{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}
{واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ} شروع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء إثر بيان أحكام المواريث، و{اللاتى} جمع التي على غير قياس، وقيل: هي صيغة موضوعة للجمع، وموضعها رفع على الابتداء، والفاحشة ما اشتد قبحه، واستعملت كثيرًا في الزنا لأنه من أقبح القبائح، وهو المراد هنا على الصحيح، والإتيان في الأصل المجيء، وفي الصحاح يقال: أتيته أتيًا قال الشاعر:
فاختر لنفسك قبل أتى العسكر ***
وأتوته أتوة لغة فيه، ومنه قول الهذلي:
كنت إذا أتوته من غيب ***
وفي القاموس أتوته أتوة وأتيته أتيًا وإتيانًا وإتيانه بكسرهما، ومأتاة وإتيا كعتى، ويكسر جئته، وقد يعبر به كالمجيء والرهق والغشي عن الفعل، وشاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية، وهو المراد هنا فالمعنى يفعلن الزنا أي يزنين، والتعبير بذلك لمزيد التهجين، وقرأ ابن مسعود {يَأْتِينَ} فالإتيان على أصله المشهور، و{صَلَحَ مِنْ} متعلقة حذوف وقع حالًا من فاعل {يَأْتِينَ} والمراد من النساء كما قال السدي وأخرجه عنه ابن جرير النساء اللاتي قد أنكحن وأحصن، ومثله عن ابن جبير {فاستشهدوا} أي فاطلبوا أن يشهد {عَلَيْهِنَّ} بإتيانهن الفاحشة {أَرْبَعةً مّنْكُمْ} أي أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود، واشترط الأربعة في الزنا تغليظًا على المدعي وسترًا على العباد، وقيل: ليقوم نصاب الشهادة كاملًا على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ولا يخفى ضعفه، والجملة خبر المبتدأ والفاء مزيدة فيه لتضمن معنى الشرط، وجاز الإخبار بذلك لأن الكلام صار في حكم الشرط حيث وصلت اللاتي بالفعل قاله أبو البقاء وذكر أنه إذا كان كذلك لم يحسن النصب على الاشتغال لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز، وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير فاستشهدوا لأنه لا يصح أن يعمل النصب في {اللاتى}، وذلك لا يحتاج إليه مع صحة الابتداء وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره اقصدوا اللاتي أو تعمدوا، وقيل: الخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم حكم اللاتي، فالجار والمجرور هو الخبر وحكم هو المبتدأ فحذفا لدلالة فاستشهدوا لأنه الحكم المتلو عليهم، والخطاب قيل: للحكام، وقيل: للأزواج.
{فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بالإتيان. {فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي فاحبسوهن عقوبة لهن {فِى البيوت} واجعلوها سجنًا عليهن {حتى يَعْقُوبَ الموت} المراد بالتوفي أصل معناه أي الاستيفاء وهو القبض تقول: توفيت مالي على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك فهناك استعارة بالكناية والكلام على حذف مضاف، والمعنى حتى يقبض أرواحهن الموت ولا يجوز أن يراد من التوفي معناه المشهور إذ يصير الكلام نزلة حتى يميتهن الموت ولا معنى له إلا أن يقدر مضاف يسند إليه الفعل أي ملائكة الموت، أو يجعل الإسناد مجازًا من إسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله.
{أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} أي مخرجًا من الحبس بما يشرعه من الحدّ لهن قاله ابن جبير وأخرج الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك واربدّ وجهه، وفي لفظ لابن جرير يأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك فأنزل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» وروى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها.
وروى ابن جرير عن السدي كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها، وحكاية النسخ قد وردت في غير ما طريق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ورويت عن أبي جعفر، وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما، والناسخ عند بعض آية الجلد على ما في سورة النور وعند آخرين إن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد بدلائل الرجم. وقال الزمخشري: «من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلومًا بالكتاب والسنة، ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال، ويكون السبيل على هذا النكاح المغني عن السفاح»، وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في «معالم السنن»: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله تعالى لهن سبيلًا ثم إن ذلك السبيل كان مجملًا فلما قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني» إلى آخر ما في الحديث صار ذلك بيانًا لما في تلك الآية لا ناسخًا له، وصار مخصصًا لعموم آية الجلد، وقد تقدم لك في سورة البقرة ما ينفعك في تحقيق هذا المقام فتذكره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8